في مثل هذه الأيام قبل اثنين وثلاثين عاما، سقط الشاعر اللبناني خليل حاوي مضرجا بأحلامه التي سبقته بدورها إلى السقوط. كانت الدبابات الإسرائيلية تتقدم دون مقاومة تذكر باتجاه الشمال، غير أن بيروت التي أحبها الشاعر حتى الثمالة لم تكن قد حوصرت بعد من قبل الجحافل الغازية. ولكن صاحب «الناي والريح» استبق قدر المدينة الإغريقي بإطلاق النار على رأسه من بندقية للصيد كان قد ادخرها على الأرجح لمناسبة مريرة كهذه المناسبة. أما نحن ــ تلامذته وأصدقاءه ومحبيه ــ فقد رأينا فيما أقدم عليه شاعر الانبعاث القومي نذيرا قاتم الدلالة، لا بمصير العاصمة التي أصررنا على مشاركتها محنة حصارها القاسي فحسب، بل بمصير الأمة جمعاء وهي تراقب بعين العجز الفاضح سقوط لؤلؤة المتوسط وأندلس العرب الجديدة. ليس لأحد بالطبع أن يسوغ للشاعر انتحاره المأساوي في اللحظة التي كانت تستلزم دفاعا بالكلمة والموقف والدم المراق عن حق المدينة في الحرية والكرامة ومقاومة الموت. كما أن المرء ليحار بالفعل إزاء فعلة الشاعر الذي كان عليه أن ينتصر، بالأسلحة الرمزية التي يمتلكها، لقلب المدينة الثابت على صموده رغم شراسة الهجمة وعمق الجراح. ولكن ما يدفع للتساؤل حول دوافع الانتحار هو كون الاجتياح، على هوله، لم يكن سوى تتويج ملموس لحدس الشاعر بالهزيمة من خلال قصيدته الشهيرة «لعازر 1962»، والتي نعى فيها الشاعر فكرة الانبعاث التموزي التي ظلت لسنوات حجر رحى الحداثة العربية والشعرية. ولو كانت الهزيمة وحدها هي سبب الانتحار لاستوجب أن يضع الشاعر حدا لحياته في اللحظات التي أعقبت الخامس من حزيران عام 1967. ثمة الكثير مما يقال في هذا الخصوص. فالعديد من عارفي الشاعر، ومن أطبائه أيضا، يشيرون إلى محاولات متكررة للانتحار قام بها الشاعر في السنوات الأخيرة من حياته. وقد أتاح لي تتلمذي عليه طالبا في الجامعة اللبنانية أن أتلمس عصابيته الزائدة وتبرمه الدائم بأحوال الوطن والأمة من جهة، وبمحاولات تهميشه من قبل النقاد والشعراء من جهة أخرى. وكان شديد الشكوى من الفوضى والتسيب اللذين يحكمان الساحة الشعرية العربية ويجعلانها مشرعة على الرداءة والتسيب وفقدان المعايير. لكن هذه الفوضى على استشرائها لم تكن لتفت في عضد الشاعر لو كان قادرا يومها على كتابة روائع شعرية من وزن «الجسر» و«لعازر» و«المجوس في أوروبا» وغيرها. فما حدث ــ آنذاك ــ هو أن القوة الروحية التي أمدت الشاعر بكهرباء اللغة في بداياته قد خذلته تماما بعد ذلك، بحيث بدت مجموعتاه الأخيرتان «الرعد الجريح» و«من جحيم الكوميديا» صدى باهتا لما كتبه حاوي في أعماله الثلاثة الأولى. وقد ترافق كل ذلك مع فشل ذريع لعلاقة الشاعر بالمرأة، ومع خيبات عاطفية متلاحقة ناجمة على الأغلب عن مزاجه الصعب وتصدعه النفسي الداخلي. وهذا المثلث القاسي من الخيبات هو الذي اختزله الشاعر الراحل محمود درويش بقوله «الشاعر افتضحت قصيدته تماما/ وثلاثة خانوه/ تموز وامرأة وإيقاع/ فناما». والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم: لو أن خليل حاوي لا يزال على قيد الحياة، فهل كان سيختار مصيرا آخر لنفسه، وهو يرى بأم العين الفصول الأكثر دموية من جحيم الكوميديا السورية والعربية؟. وهل كان سيتراجع عن موته وهو يرى القضية الفلسطينية تضيع في متاهة الانقسامات الداخلية والتخلي العربي والدولي؟. وما الذي كان سيفعله لو خطر له أن يقارن بين فوضى الكتابة في زمنه وبين «تسونامي» الغثاء الأجوف الذي لا يتورع آلاف الكتبة ومنتحلي الصفة والعاطلين عن الموهبة عن نسبته إلى عالم الشعر.